قصةٌ قصيرة: ما تخبؤه الطفولة بلا أجهزة ذكية من هدايا
الرئيسية الآثار السلبية للهواتف الذكية على الأطفال
قصةٌ قصيرة: ما تخبؤه الطفولة بلا أجهزة ذكية من هدايا

 أحيانًا، عندما نقرر أن نمنح أطفالنا هواتفًا ذكية، نحتاجُ أن نأخذ خطوة للوراء، ونُلقي نظرة على بُعدٍ أوسع، فنرى ما يأخذه هذا الهاتف من حياتهم مقابل إعطائهم إياه.

دونكم القصة التالية من تأليف بنجامين كونلن، وهي قصة ترسم الصورة المُثلى لفوائد الأحداث اليومية البسيطة في نضج أبنائنا.

قصةُ «لَمَى»

ترغب لمى في امتلاك هاتفٍ ذكي، وتؤْثرُ ذلك على كل شيء، وترجّت أمها وأبيها أيّما ترجّي، ولكنهما رفضا، فراحت تخبرهما أنها تحتاجه للحديث مع صديقاتها، أو لأداء واجباتها، وأنه بحوزة "الجميع" سواها، ففضّلا منحها هاتفًا قديمًا من أجل الطوارئ، ولكن هذا ليس ما تتمناه لمى.

وهذه هي صديقتنا لمى، ابنة الثلاثة عشر عامًا، تستيقظ صباح يوم السبت، دون هاتفٍ ذكي…

تفتح عينيها، ثم تُحدّق في السقف، وهي لا تدرك ذلك بعد.. ولكنها تعيش ذاك النوع من الانفراد، الشيء الذي بالفعل نسيه كثيرٌ من أصدقائها... هي منفصلة عن العالم الخارجي، لكنها منفردة ومتصلة بعالم أفكارها الداخلي... لا تحاول الوصول دون وعيٍ لهاتفها الذي يُشحَن على الطاولة بجانب سريرها، ولا تتصفح انستقرامَ، ولا تُلقي نظرةً فاحصة على سنابتشاتَ، ولا هي بقادرة على متابعة فيديوهات «Tasty»، ولا اللعب بـ «Candy Crush»، ولا على المراسلة. لعلّ لمى كانت "ستقدر" على فعل هذه الأشياء، ولكنها لن تقدر. ولأنها لن تقدر، فهي لا تفكر بفعل ذلك.

نهضت من فراشها بعد عدة دقائق من استيقاظها، أسرع بكثير ممن هم في سنها، وتوجّهت للطابق السفلي، فوجدت أخاها عادل، ذو العاشرة، جالسًا عند الطاولة يقرأُ كتابًا. أبوهما يصنع الفطائر المحلاة، ولم تجهز بعد، لذلك احتاجت لمى للتسلّي بشيء ما ريثما تنتظر أمام الطاولة.

تقول بهمس: «عادل»

عادل: «ماذا؟»

لمى: «لا شيء، فقط أردت أن أعرف إذا بإمكانك سماعي» 

عاد عادل لإكمال القراءة... 

تهمس من جديد: «عادل» 

عادل: «ماذا؟»

لمى: «لا عليك»

عاد عادل ليكمل قراءته...

«عادل؟»

واستمرت لمى بإزعاج أخاها هكذا حتى راح يشتكي لأبيهما، وهو يروق له ذلك، فهو لا يرى أخته الكبيرة كثيرًا هذه الأيام، إذ تدرس في مدرسة مختلفة عنه، وسيكونا تحت سقف واحد لخمسة سنين قادمة فقط. ومثل هذه الأحاديث مهمة لعادل، وهي بالعادة تكون نتيجة ملل لمى، وتبدأ أحاديثها بكونها قصيرة وسخيفة وتزداد مع مرور الوقت.

وبعد الفَطُور، قررت لمى أن تبدأ بحل واجباتها، فلم تجد دفتر الواجبات، إذ نسيته في المدرسة. أما زملاؤها لم يكونوا بحاجة لكتابة سؤال الواجب، فقد قاموا بتصويره بهواتفهم الذكية!

فقامت تخْبِطُ خبْطَ عشواءٍ برجليها وهي متجهة للدور الأرضي، وتُعلي صوتَها معبّرةً عن شعورها بالإحباط. وتتذمر قائلةً: «لو كان عندي هاتف، لم أحتج للدفتر.»

وهي محقة، فما أسهل حل تلك المشكلة لو كانت تمتلك هاتفًا، ولكن مثل هذه المشكلة ليست بالشيء المُعضِل لبنت ١٣ عامًا، لا سيّما أنه يمكن منع حدوثها في المستقبل بقليلٍ من الانتباه للتفاصيل، ففي يوم الإثنين، قد تنسى دفترها مرة أخرى، وربما لا. ولعلها بسبب تلك المشكلة، ستقوى ذاكرتها، وستكون على أُهْبَة الاستعداد لحل واجبها أكثر مما كانت عليه يوم الجمعة. 

تتساءل لمى: «ماذا لعلي أفعل؟!» 

- ليس عليكِ إلا أن تتصلي بصديقة - 

وازداد بتلك الفكرة إحباطُ لمى، فتفكّر: «لو أن عندي هاتف لكنت فقط أرسلت رسالة، سيكون ذلك أسهل بكثير.»

وأُكرر، هي محقة، سيكون ذلك أسهل بكثير، فهي لا تعرف أي رقم من أرقام منازل زميلاتها، فهي تتحدث معهن في المدرسة تحدثًا حقيقيًا وليس بالهاتف. وبإمكانها أن ترسل بريدًا لإحدى صديقاتها من حاسوب العائلة، ولكن الرد ليس مضمونًا.

قالت لها والدتُها: «طبعتُ دليل المدرسة، تجديه فوق الثلاجة، اتصلي بعائلة أبي عامر، متأكدة أن رقم منزلهم هناك. 

لمى لا تريد أن تتصل، فهي منفعلة ومتوترة، لكن أأمامها خيار آخر؟

تنفست تنفسًا عميقًا ثم اتصلت، وفي الرّنة الثالثة رد أبو عامر: «مرحبًا؟»

ردت لمى مُتلعثمةً: «السلام عليكم، هل... هل غيداء موجودة؟» 

صمت أبو عامر...

إنه في صدمة، فهذه هي المرة الأولى التي اتصلت فيها إحدى صديقات ابنته على المنزل.

قال: «وعليكم السلام، من المتصل؟»

شعرت لمى بالإحراج، فلم تتوقع أن عليها أن تعرف بنفسها. قالت: «آه… نعم... أعتذر، أنا لمى»

قال: «صباح الخير يا لمى»

هو يعرف من تكون لمى، ولكنه لم يتكلم معها مسبقًا.

أردف قائلًا: «كيف حالك؟»

ردت: «بخير الحمد لله»

قال: «حمدًا لله أنكِ بخير، انتظري دقيقة فقط، سأنادي غيداء»

تنفست لمى الصعداء، فلم تكن تلك نهاية العالم كما كانت تظن، وأدركت أنه كان عليها أن تسأل أبا عامر عن حاله، ولكن يمكنها أن تسأله المرة القادمة، فحين تتصل المرة القادمة، لن تكون متوترة جدًا كهذه المرة، ولو أنها كانت بصحبة صديقاتها واحتاجت إحداهن لتتصل لطلب الطعام أو الزهور أو سيارة أجرة فاخرة، ستبادر هي بذلك، فمن ذا الذي سيكون أشجع منها لفعل ذلك؟ كما أنها ستتعلم من هذه المكالمات.

وعندما حصلت على سؤال واجب الرياضيات، جلست على طاولة المطبخ لتبدأ الحل، وكان واجب لمادة الجبر الابتدائي، ولم يكُن سهلًا. قامت بحل بضع مسائل ثم استعصى عليها حل مسألة، فحاولت من جديد، لكنها لم تنجح، فهزّت رأسها... هنالك تطبيقات يمكن من خلالها تصوير المسائل و"مشاهدة" التطبيق ريثما يحلها فورًا، ويستخدم الــجـمـيــع مثل تلك التطبيقات. اتصلت لمى بوالدتها تستجدي بمعونتها، ولكن والدتها لم تحل أي مسائل في الجبر منذ سنوات، فهي لا تكاد تذكر شيء منه.

وتسأل نفسها لمى: «لو درستِ الجبر ولكن لا يمكنك تذكر أي شيء منه، فما الفائدة؟»

ما أحسنه من سؤال!

صحيح أن أم لمى لا تتذكر شيء من الجبر، ولكنها لم تنسَ معركة حله كل ليلة .. كان يـلــزمــهـا حله، فلم يكن في جيلها هاتف ذكي لمساعدتها، إذ كان لا بُـــدَّ أن تكابد العناء، مرةً بعد مرة. وفي كل مرة حملت فيها نفسها على عمل مَهمّة صعبة، وجدت من نفسها قدرة أكبر، فأخبرت لمى بأن تحاول وألا تتوقف.

لكنها أبت المحاولة، وراحت للحجرة لتبحث عن حلها في الحاسب، ولكن أباها كان يَشْغُلْه لحظتها ويعمل على مشروع، ثم قال لها: «آسف، إنه معطل».

فمشت مُثقِلةً قدميها، عائدةً للمطبخ، وأعادت النظر في المسألة. وبعد مضي ساعة، حلتها أخيرًا. على الأرض أوراق مطوية، مبعثرة في كل مكان، وقلم لمى قد بلى، وذهنها قد أُنهك .. ولكنها أيضًا أقوى.

وحان دور مادة اللغة الإسبانية، وليست بأقل صعوبة من الجبر، وتتساءل إذا ما يمكنها أيضًا تذكر تلك المادة بعد عشر سنين. يتقن بعض من صديقاتها الإسبانية، وتمنت لو أنه يمكنها مراسلتهن لمساعدتها.. ومعظم الأطفال لديهم تطبيق مترجم قوقل، ويستخدمونه للواجب... كان سيكون معينًا كبيرًا لها.. ولكنها الآن في معترك مع ترجمة صفحتين، تبحث عن الكلمات في قاموس، وتبحث في تصريف الأفعال بضمير، والأمر صعب، ولكنها قادرة على أن تُنهيه بعزمٍ جديد. وفي خضم ذلك، ازداد جَلَدُها وثباتها، ازداد قليلًا.

وسرعان ما حان وقت تمرين كرة القدم .. قفزت لمى وعادل لسيارة العائلة، وانطلقوا متجهين ناحية طرف المدينة، حيث الملعب، وكانت رحلة طويلة، مع زحام كبير في الطريق. هزّت لمى رأسها... هي تجلس في مقعدها ولا تفعل شيئًا بمعنى الكلمة، في حين كان يمكن أن تشاهد فيلمًا على هاتفٍ ذكي. والزحام جعل لمى تشعر بالملل والضجر، ولكنه علمها الصبر أيضًا.

تنظر لمى للخارج وتعَدُّ أي صندوق بريد ليس بأبيضٍ أو أسود، ولم يكن هنالك الكثير منها، وانضم إليها عادل، فوالدتهما. وفكروا لمَ يا ترى لا يوجد تنويع أكثر في ألوان صناديق البريد؟ تعرف لمى في قرارة نفسها أنه يمكنها أن تبحث عن الجواب لو كانت تمتلك هاتفًا، ولكن المحادثة أمتع، وجميعهم قد لفت نظرهم كثير من الأشياء في المدينة مما لم ينتبهوا له مسبقًا، كان هنالك بنايات بُنيت منذ عهد جديد، ومكتبة قد مرّت بأعمال تجديد، ومصرف بُني حديثًا في الزاوية عند ملعب كرة القدم.

قالت لها والدتها عندما أوقفت السيارة: «سيقلّك والدك في الساعة الواحدة، وأنا سأذهب للمكتب لألحق على عملي»، ثم غادرت، واتفق الأخوين على أن يلتقيا عند الحمامات بعد التمرين، ثم ركض كلا منهما باتجاه ملعبه.

وبعد تمرين شاقّ، جمعا أغراضهما ثم توجها للحمامات، وقررا أن يذهبا للداخل ليغسلا عن أيديهما الوحلَ وعن ركبهما. وخُيّل لمُدرّبهما أنهما قد أُقِلّا وغادرا، وعندما خرجا، كان الجميع قد غادر، ولم يجدا أي أثر لأبيهما.

تأوهت لمى: «أوه يا الله! إنه يعمل على ذلك المشروع، أقسم بالله أنه نسينا. 

سرى التوتر في جسد عادل .. قال: «ماذا لعلنا نفعل؟»

ردت لمى: «وما أدراني؟»

فلا سبيل لهما للاتصال بوالديهما، ولا لطلب «أوبر»، ولا للبحث عن اتجاهات طريق العودة للمنزل مشيًا. تحلّا بالصبر لبرهة ثم بدأ شعور الذعر يتمكن منهما...

تذكرت لمى المصرف الذي على الشارع، فاقترحت أن يمشوا حتى هناك. عادل خائف، ولمى أيضًا، ولكنها أكبر منه، لذا تخبره بأن كل شيء سيكون على أتمّ ما يُرام، وهي من تقودُه، هي صاحبة القرار، عليها أن تكون كذلك. تنفست بعمق، وحاولت أن تحافظ على رباطة جأشها .. وازدادت قدرتها على تحمل وطأة الشدائد، أكثر من ذي قبل. 

ولما كانا بانتظار إشارة المرور، قامت لمى بتأليف قصة عن التمثال المقابل للمصرف جعلت عادل يضحك .. قد خفّ بذلك توتر الجو، حتى وصلا ووجداه مغلقًا. عاد التوتر يسري مجددًا في جسد عادل، في حين انتبهت لمى لمجموعة من عمال البناء، يحفرون الرصيف من بعيد على نفس الشارع. كان هنالك سيارة شرطة متوقفة وراء العمال، وشرطي يقف أمامها يوجّه السير.

قالت بنبرةٍ شُجاعة: «سنستأذن ذاك الشرطي باستخدام هاتفه.»

ولما اقتربا منه، ألجم الخوفُ عادلَ، فأعيا عليه الحديث، ومثله لمى، ولكنها تحدثت إلى أبي عامر مسبقًا، وقد مرّ الأمر بسلام، لذا استجمعت شجاعتها، وألقت التحية بأدبٍ، ثم استأذنته باستخدام هاتفه.

وأبدا الشرطي سروره بمساعدتهما، وردّ أبو لمى من أول رنة، وكان قلقًا عندما سمع صوته ابنته، وأدرك تقصيره.

صاح: «ها أنا قادم يا ابنتي! دعيني أتحدث إلى الشرطي!»

أعادت لمى الهاتف لمالكه، وشكره أبو لمى بملء قلبه، وشرح له بأنه فقط غفل عن الوقت.

عادت لمى وعادل للمنزل بصحبة الشرطي، وسمح لهما بسماع الصفارة لمرة واحدة فقط، وتعرفا بشخص كانا لن يلتقيا به أبدًا لولا ما حصل، شخص بيده أن يساعدهما في المستقبل. وليس هذا كل ما خرجا به من تلك التجرِبة، بل صارت تجمعهما ذكرى، وقصة تستحق أن تُروى. وأجمل القصص منبعها المواقف الصعبة، والهواتف الذكية تسلبها سلبًا. وطبعًا بعد هذه المغامرة ربما ستُعطى لمى هاتفًا من الطراز القديم لأجل مثل حالات الطوارئ هذه، ولكنها لن تُخالف ذلك.

وبعد سويعات، أوت لمى لفراشها، واستغرقت في النوم في هدأة، بالضبط كما ابتدأت يومها. وقد تبدو هي كما هي، وقد تشعر بنفس الشعور، ولكنها ليست كما هي بالضبط، بل باتت أكثر حِلمًا، ومرونةً، وأكثر اعتمادًا على نفسها مقارنة بما كانت عليه في الصباح. وهي أقربُ لأخيها، وأقدر على التحدث مع الكبار، وأكثر ثقة بنفسها، وهذا التحسن لا يُذكَر، ولكنه ملحوظ.

ولكَ الآن -أيها القارئ- أن تتخيل يومًا جديدًا بنفس التحديات، التحديات التي تسلبها الهواتف الذكية، وأن تتخيل يومًا آخر مثله، ويومًا بعده، ويومًا بعده... وعلى مر السنوات، ليس ما سيقوي لمى سهولة الأمر، بل صعوبته، كما يعتقد رئيس الولايات المتحدة السابق جون كينيدي.

وعندما يحين وقت تقدم لمى للجامعة، سيُطلب منها في نموذج التقديم أن تعرف بنفسها، ستُسأل ما الذي يميزها عن غيرها من المتقدمين؟ ما الذي ســيـقـودهــا للنجاح مقارنة بغيرها؟

عندها ستكتب:

كبرتُ بلا هاتفٍ ذكي.

ما أبلغها من جُملة!

  • الكاتب : Melanie Hempe
  • الناشر : آية جمال
  • ترجمة : رنيم الزهراني
  • مراجعة : محمد حسونة
  • تاريخ النشر : قبل سنتين
  • عدد المشاهدات : 6,182
  • عدد المهتمين : 176
المصادر
قالو عنا
مقالات ذات صلة
الصوم الالكتروني في رمضان

لم يعد يفصلنا عن رمضان إلا أيامًا معدودة، ويمكننا استغلال هذا الشهر الكريم في التخلص من ال...

معسكر الديتوكس الرقمي

أقام فريق "بلس فورتين" معسكر الديتوكس الرقمي في الفترة من 1 يناير إلى 30 يناير 2025، بهدف ...

تأثير الذكاء الاصطناعي على الأطفال

مع التطور السريع الذي يشهده العالم في الآونة الأخيرة، انتشر مفهوم الذكاء الاصطناعي؛ والمقص...

الصمت حقًا من ذهب

بعد سنوات من العمل في مدرسة ثانوية كمعلم ومستشار، لاحظت بعض التغيرات في ثقافتنا التي جعلتن...